أثر الإسلام في الحياة الأدبية
أحدث ظهور الإسلام تحولاً جذرياً في حياة الأمة العربية ونقلها من طور التجزئة القبلية إلى طور التوحد في إطار دولة عربية تدين بالإسلام وتتخذ القرآن الكريم مثلاً أعلى. وكان لابد لهذا الحدث العظيم من أن يعكس صداه القوي في الحياة الأدبية لهذه الأمة. شعراً ونثراً ومن الطبيعي أن النتاج الأدبي للأمة يتفاعل مع البيئة التي تظله ويخضع لمؤثراتها.
وحين تُرصد الظواهر الأدبية في صدر الإسلام يتبين بجلاء ما تركه الإسلام من بصمات واضحة في مسيرة الأدب عصرئذ وفي سماته وخصائصه. ومن أبرز آثاره ضمور فنون أدبية كانت مزدهرة في العصر الجاهلي وظهور فنون جديدة أو تطور فنون قديمة. فقد قضى الإسلام على سجع الكهان الذي كان مرتبطاً بالوثنية الجاهلية ونهي الخطباء عن محاكاة ذلك السجع في خطبهم، وظهر لون من الخطابة يستقي من ينابيع الإسلام. وأخذ الشعراء يعزفون عن النظم في الأغراض التي كانت حياة العرب في الجاهلية تدعو إليها. واتجهوا إلى أغراض دعت إليها البيئة الإسلامية كشعر الجهاد والفتوح والشعر الديني، وأصبح شعرهم يدور حول معان تتصل بالقيم والمثل الإسلامية. وقد أوجد الإسلام مبادئ خلقية تلائم تعاليمه وروحه فانعكست هذه المبادئ في النتاج الأدبي عصرئذ.
وقد راجت مقولة تذهب إلى أن الإسلام وقف من الشعر والشعراء موقفاً مناهضاً مثبطاً، استناداً إلى قوله تعالى: )والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون (الشعراء: 224-226). وتصحيحاً لهذه المقولة ينبغي التوضيح أن الشعراء الذين تناولتهم الآيات القرآنية إنما هم الشعراء الذين كانوا يحرضون على الفتنة، ويخوضون في الإفك والباطل، والذين كانوا يتصدون لهجاء الرسول عليه السلام والمسلمين، وليس المقصود الشعراء كافة، ولهذا استثنى تعالى الشعراء الذين لا تصدق عليهم الآيات السابقة بقوله بعدها: )إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعدما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون( (الشعراء 227). وكان الرسول عليه السلام يميل إلى سماع الشعر الجيد، وكان يشجع حسان بن ثابت وشعراء الأنصار على مهاجاة شعراء المشركين، وكان يقول لحسان: «اهجهم وروح القدس معك»، فهو إذاً لم يدع إلى التخلي عن الشعر وإنما كان يقف موقفاً مناهضاً من الشعر الذي ينافي المبادئ والقيم الإسلامية، وقد أثر عنه حديث في إطراء الشعر وهو قوله عليه السلام: «إن من الشعر حكمة» (صحيح مسلم).
وكان للإسلام يد لا تنكر في ازدهار النثر الأدبي، ولاسيما الخطابة والترسل، فقد أصبحت الخطابة وسيلة لنشر الدين والوعظ وبيان مبادئ الإسلام والحض على الجهاد والدعوة إلى مكارم الأخلاق وبيان خطة الحكم، وكان الرسول عليه السلام وخلفاؤه خطباء مفوهين، وكذلك كان جل عمالهم وقوادهم. وقد دعا قيام الدولة الإسلامية واتساع سلطانها إلى الاستعانة بالكتابة والكتاب، وكانت الكتابة محدودة الانتشار في العصر الجاهلي فاتسع لها المجال في صدر الإسلام وأقبلت الناشئة على تعلم الكتابة.
الفنون الأدبية في صدر الإسلام:
ظل الشعر يتبوأ المنزلة الأولى في صدر الإسلام، شأنه في العصر الجاهلي، ولكن تطوراً جاداً ألمَّ به من حيث الأغراض والمعاني. فقد أوجد الإسلام أغراضاً جديدة كشعر الجهاد والفتوح والزهد والوعظ والشعر السياسي.
وتضاءل شأن طائفة من أغراض الشعر التي كانت سائدة في الجاهلية كالشعر القبلي القائم على العصبية القبلية والمتصل بالأيام والوقائع والمفاخرات والشعر المتصل بالغزو والغارات. فقد ألغى الإسلام دواعي الشعر القبلي حين وحد القبائل العربية في أمة واحدة، تسوس أمورها دولة واحدة، وانصرف شعراء الحواضر إلى أغراض تلائم بيئتهم المترفة فاتجهت طائفة منهم إلى الشعر الغزلي الذي بلغ الغاية من التألق والازدهار في عصر بني أمية، واتجهت طائفة أخرى إلى الشعر الديني والوعظي.
وإلى جانب الشعر أخذت الخطابة تثبت أقدامها لحاجة المسلمين إليها عصرئذ، وبدأت تسير في طريق النماء والنضج بشتى أنواعها وفي حين توارى سجع الكهان ظهرت مكانة الخطابة الدينية، فكان الرسول e يخطب في المسلمين موضحاً لهم شؤون عقيدتهم. وجاء الخلفاء الراشدون بعده فساروا على نهجه، وكانوا يعظون المسلمين في خطبهم ويحضونهم على مكارم الأخلاق. وقد احتلت الخطابة الدينية المنابر وحلقات المساجد منذ ذلك العصر، وكثر الوعاظ والقصاص.
وفي الوقت عينه ظهرت الخطابة السياسية التي تدور حول شؤون الحكم وسياسة الرعية، واستخدمت أول الأمر فيما نشب من خلاف بين المسلمين حول الخلافة إثر وفاة الرسول e، فكانت الخطب التي ألقيت في سقيفة بني ساعدة باكورة الخطب السياسية. وبعد مقتل عثمان وافتراق المسلمين إلى شيعتين إحداهما تناصر علياً والثانية تناصر معاوية بن أبي سفيان عظم شأن الخطابة السياسية، على أن هذه الخطابة لم تتألق وتزدهر إلا في العصر الأموي.
وإلى جانب هذين اللونين من ألوان الخطابة ظلت للخطابة الحفلية مكانتها، ولاسيما خطب الوفود، فإذا وفد قوم على الرسول e أو على خلفائه من بعده أحضروا معهم خطباءهم ليتحدثوا بلسانهم ويفاخروا بهم.
وفن ثالث بدأ يحبو في عصر صدر الإسلام ويخطو خطواته الأولى في طريق النضج هو فن الترسل، فإن قيام الدولة الإسلامية استدعى وجود كتاب يوجهون الرسائل إلى العمال والقبائل في مختلف أقطار الدولة، فكان للرسول كتابه كما كان لخلفائه وولاتهم من بعده كتابهم. ومن الكتاب الذين استعان بهم الرسول e لكتابة الوحي وكتابة الرسائل علي ابن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبان بن سعيد، وخالد بن سعيد، والعلاء بن الحضرمي، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت.
ومن الرسائل المهمة في تلك الحقبة رسالة عمر بن الخطاب التي أرسلها إلى أبي موسى الأشعري في بيان أحكام القضاء بين المسلمين