التناص في النقد العربي الحديث
يعد مفهوم التناص من المفهومات الحديثة في الکتابات النقدية العربية قد لاتعود إلي أکثر من عقد من الزمان مضي إذ ظهر اعتماداً علي أطروحات النقاد الغربيين الذين تناولناهم في الصفحات السابقة في بعض الإضافات التي وضعها النقاد العرب. جاء الاستخدام النقدي لنظرية التناص في النقد العربي الحديث متأخرا ما يقارب ربع قرن على ظهوره في النقد الغربي، وكان من الطبيعي أن يحمل انتقاله إلى الممارسة النقدية العربية الإشكاليات التي كان يعاني منها علی المستوی النظري والمفهومي علی وجه الخصوص. كما كان من الطبيعي أن يقابل هذا المفهوم، كغيره من المفاهيم النقدية بتباين واضح في الموقف منه كما كان الحال في الثقافة التي ظهر فيها هذا المفهوم. ونظرا لكون الدراسة هنا تتناول استخداماته في الممارسة النقدية، وحمولته الدلالية المعبرة عن استيعاب هؤلاء النقاد للمفهوم، فإننا لن نتعرض لتلك المواقف والذرائع التي استندت إليها في تحديد موقفها من ذلك سلبا أو إيجابا، وسنكتفي بعرض المصطلحات التي استخدمت في ترجمته، مع الإشارة في البداية إلى أن هذا المفهوم، لم يكن بعيدا عن الاستخدام النقدي في النقد العربي القديم، «فقد ذكره عبد القاهر الجرجاني واشترط للتمييز بينه، وبين الانتحال والسرقة والنسخ، تحقيق الإضافة والتجديد فـ(متى أجهد أحدنا نفسه، وأعمل فكره وأتعب خاطره وذهنه في تحصيل معنى، يظنه غريبا مبتدعا ونظم بيتا، يحسبه فردا مخترعا، ثم يتصفح الدواوين لم يخطئه أن يجده بعينه، أو يجد له مثالا يغض من حسنه، ولهذا السبب أحضر على نفسي، ولا أرى لغيري بثَّ الحكم على شاعر بالسرقة.» [9]
«ويطرح الدكتور صبري حافظ العديد من القضايا التي تطرحها "علاقة النصوص بعضها بالبعض الآخر من جهة، وعلاقتها بالعالم وبالمؤلف الذي يكتبها من جهة أخرى، كما يطرح موضوع العناصر الداخلة في عملية تلقيننا لأي نص وفهمنا له، وهو موضوع يشير بالتالي إلى أغلوطة استقلالية النص الأدبي التي تتبناها بعض المدارس النقدية، والتي انطوت بدورها على تصور إمكانية أن يصبح النص عالما متكاملا في ذاته، مغلقا عليها في الوقت نفسه وهي إمكانية معدومة إذا ما أدخلنا المجال التناصي في الاعتبار، وإذا ما اعتبرناه مجالا حواريا في الوقت نفسه".» [10]
إن هذا الطرح يجعل مفهوم النص يتجاوز علاقات التناص التي تتشكل على أساسها النصوص الجديدة، بغض النظر عن درجات وأشكال هذا التناص إلى دور الواقع الخارجي، أو العلاقة بين العالم والمؤلف الذي يكتب النص في إطار الرؤية التي يقدمها العمل الأدبي إلى الذات واللغة والعالم في هذا النص، وهو هنا يحاول الرد على أصحاب النظرية البنيوية التي تعتبر النص بنية مغلقة على ذاتها، ومكتفية بذاته. ويشمل التناص عند الدكتور حافظ كل الممارسات «المتراكمة وغير المعروفة والأنظمة الإشارية والشفرات الأدبية والمواصفات التي فقدت أصولها وغير ذلك من العناصر التي تساهم في إرهاف حدة العملية الإشارية التي لا تجعل قراءة النص ممكنة، ولكنها تؤدي إلى بلورة أفقه الدلالي والرمزي أيضا.» وينطلق الدكتور شكري عزيز ماضي في كتابه (من إشكاليات النقد العربي الجديد) في دراسته للتناص، من مفهوم النص الذي تؤكد الدراسات علی أنه يفتقد لوجود مركز للبنية التي لا تعرف الانغلاق.
«إن النص في ضوء مفهوم التناص بلا حدود فهو ديناميكي متجدد، متغير، من خلال تشابكاته مع النصوص الأخرى، وتوالده من خلالها ثم يعرِّف النص بأنه النص الذي لا يأخذ من نصوص سابقة عليه أو متزامنة معه، بل هو يمنح النصوص القديمة تفسيرات جديدة، أو يقدمها بشكل جديد. ويحدد آليات التناص بآلية الاستدعاء والتحويل ما يتطلب النظر إلى اللغة، باعتبارها لغة إنتاجية منفتحة علی مرجعيات مختلفة، وليس كلغة تواصل.» ثم يشير إلى وظيفة أخری للنص الذي لا يكتفي بالأخذ من نصوص سابقة عليه، وهي منح النصوص القديمة تفسيرات جديدة، وهذا يذكّرنا بمفهوم الإنتاجية الذي تشترط كريستيفا تحققه في النص الجديد. من جهته يؤكد الدكتور أحمد الزعبي في كتابه (التناص نظريا وتطبيقيا) «أن موضوع التناص ليس جديدا تماما في الدراسات النقدية المعاصرة، وأن جذوره تعود في الدراسات الشرقية والغربية إلى تسميات ومصطلحات أخری، كالاقتباس والتضمين والاستشهاد والقرينة والتشبيه والمجاز والمعنى وما شابه ذلك في النقد العربي القديم، فهي مصطلحات أو مسائل تدخل ضمن مفهوم التناص في صورته الحديثة، لكنه يؤشر إلى مسألة هامة تتمثل في التفاوت الحاصل في رسم حدود المصطلح وتحديد موضوعاته. ولعل هذه الإشكالية المنهجية تتجاوز مفهوم التناص إلى غيره من النظريات النقدية الحداثية وما بعد الحداثية نظرا لتعدد الاتجاهات والتيارات النقدية التي تنشأ داخل كل نظرية من تلك النظريات.» [11]
والحقيقة أن هناك العديد النقاد العرب المعاصرين الذين تناولوا التناص بالدراسة نظريا وتطبيقيا. ويعتبر الناقد الدكتور محمد مفتاح أكثرهم عملا على تطوير وإغناء هذا المفهوم . فقد حاول "محمد مفتاح" في کتابه "تحليل الخطاب الشعري إستراتيجية التناص" أن يعرض مفهوم التناص إعتماداً علي طروحات "کريستيفا وبارت" وفي تعريفه للتناص عرض تعريفات هؤلاء النقاد وغيرهم ثم خلص إلي تعريف جامع للتناص "هو تعالق «الدخول في علاقة» مع نص حدث بکيفيات مختلفة. [12]
أيضا هو في کتابه الآخر "دينامية النص" يعود ليعطي التناص تسمية جديدة هي "الحوارية" ويحاول أن يستخدم هذا المفهوم في إطار منهج يستمدّ في البايولوجيا أغلب مصطلحاته ومفاهيمه.في كتابه الآخر "المفاهيم معالم" الذي حدَّد فيه ست درجات للتناص، مخالفا بذلك كريستيفا وجيني اللذين قدما ثلاث درجات له، وذلك بعد أن عرَّف التناص: «باعتباره نصوصا جديدة تنفي مضامين النصوص السابقة، وتؤسس مضامين جديدة خاصة بها يستخلصها مؤول بقراءة إبداعية مستكشفة وغير قائمة على استقراء أو استنباط.» [13] والدرجات الست التي يحددها هي:
1. التطابق: ويتحقق في النصوص المستنسخة.
2. التفاعل: فأي نص هو نتيجة تفاعل مع نصوص أخرى، تنتمي إلى آفاق ثقافية مختلفة، تكون درجات وجودها بحسب نوع النص المنقول إليه، وأهداف الكاتب ومقاصده.
3. التداخل: ويقصد به تداخل النصوص المتعددة، بعضها في بعض في فضاء نصي عام. وهذا التداخل أو الدخول أو المداخلة، لم يحقق الامتزاج أو التفاعل بينها، وهي تظل دخيلة تحتل حيزا من النص المركزي، وإن شبيها إلى نفسه وهذا التشارك يوجد صلات معينة بينها. 4. التحاذي: وهو المجاورة أو الموازاة في فضاء مع محافظة كل نص على هويته وبنيته ووظيفته.
5. التباعد: وهو التحاذي الشكلي والمعنوي والفضائي، وقد يتحول إلى تباعد شكلي ومعنوي وفضائي.
6. التقاصي: ويقوم على التقابل بين النصوص الدينية والنصوص الفاجرة السخيفة على سبيل المثال. [14]
أما الناقد "عبد الله الغذامي" فقد حاول في کتابه "الخطيئة والتفکير" أن يربط التناص ببعض المفاهيم والطروحات النقدية الموروثة ولاسيما نظريات الناقد عبد القاهر الجرجاني في البلاغة النقدية وخاصة فيما يتعلق بمفهوم "الأخذ" وشدة اقترابه من مفهوم التناص الحديث إذ رفض الجرجاني إستعمال "السرقة" کما شاعت قبله وبعده ويترجم الغذامي التناص ترجمات عدة. فهو يطلق تارة تداخل النصوص المتداخلة ويطلق عليه تارة ثالثة النصوصية وقد اعتمد في طروحاته علي آراء "کريستيفا وبارت وريفاتير ولوران جيني".
«أما الناقد محمد بنيس فقد اجترح مصطلحاً جديداً التناص أسماه ب"النص الغائب" علي اعتبار أن هناک نصوصا غائبة ومتعددة وغامضة في أي نص جديد وقد طرح هذا المصطلح کتابيه "سؤال الحداثة" و"ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب" وقد اعتمد أيضاً علي طروحات "کريستيفا وبارت وتودوروف" والتناص عنده يحدث من خلال قوانين ثلاثة وهي:
الاجترار، الامتصاص والحوار ويضع بنيس النص المتناص مرجعيات عدة منها: الثقافية والدينية والأسطورية والتاريخية والکلام اليومي.»
[15] ويتابع "إبراهيم رماني" محمد بنيس في تسميته "النص الغائب" ويعرفه بأنه مجموعة من النصوص المستترة التي يحتويها النص الشعري في بنيته وتعمل بشکل باطني عضوي علي تحقق النص وتشکل دلالته.ونجد عند صبري حافظ أن العمل الشعري يتفاعل تناصياً مع کل معطيات الميراث النصي والخبرات التناصية في الواقع الذي يصدر عنه ويتفاعل معه. [16] «والتناص عند "توفيق الزيدي" هو تضمين نص في نص آخر وهو في أبسط تعريف له تفاعل خلاق بين النص المستحضِر والنص المستحضَر، فالنص ليس إلا توالداً النصوص سبقته ويجترح سعيد يقطين تسميات عدة يشتقها من النص والتناص مثل التفاعل النصي، التناص التداخلي والخارجي ويحدد نوعين من التناص: "عام وخاص".
التناص العام: علاقة نص الکاتب بنصوص غيره من الکتاب. والتناص الخاص: علاقة نصوص الکاتب بعضها ببعض.وأيضاً يحدد شکلين للتفاعل النصي وهما: التفاعل النصي الخاص: بدو حين يقيم نص ما علاقة مع نص آخر محدد وتبرز هذه العلاقة بينها علي صعيد الجنس والنوع والنمط معاً. التفاعل النصي العام: يبرز فيما يقيمه نص ما من علاقات مع نصوص عديدة مع ما بينها من إختلاف علي صعيد الجنس والنوع والنمط.» [17