لا زالت تجارة المفرقعات في الجزائر تثير الكثير من الجدل والغموض، فتهريب مئات الحاويات المعبأة بهذه المادة من ميناء الجزائر، وبيعها في أكبر سوق جملة للمفرقعات "جامع ليهود"، والذي ينشط بحراسة أمنية، يثير التساؤلات حول صمت السلطات على بيع "المتفجرات" التي يروِّج لها أزيد من 30 ألف شاب في الشوارع والساحات العمومية، على مرأى من مصالح الأمن، فالقانون الجزائري الذي يمنع بيع هذه المواد، ويعاقب مستورديها منذ سنة 1963، بات حبرا على ورق، لسبب واحد، وهو ارتباط تجارة المفرقعات ببارونات وإطارات ينشطون بسجلات تجارية وهمية بأسماء الموتى، حسبما أكدته المديرية العامة للجمارك، التي وجدت نفسها عاجزة في مواجهة "مافيا" تهريب حاويات المفرقعات من الميناء.
"جامع ليهود" في العاصمة، أكبر سوق جملة لبيع المتفجرات والألعاب النارية في الجزائر، يطلق عليه البعض اسم "جمهورية المفرقعات"، أزيد من 200 طاولة كبيرة لبيع المفرقعات تنشط على مرأى من مصالح الأمن، ولا تبعد سوى كيلومترات عن مراكز صناعة القرار "البرلمان، قصر الحكومة، مديرية الأمن الوطني.."، الحجم الكبير والهائل من المتفجرات والألعاب النارية المعروضة، يعطي صورة على عدد الحاويات المهربة من ميناء الجزائر، باعتباره الممول الوحيد لهذه السوق حسب شهادة التجار.
الحديث مع التجار حول مصدر المفرقعات وطرق الحصول عليها باعتبارها مواد ممنوعة، لم يكن سهلا، لحساسية وخطورة الأمر، ما جعلنا نتنكر في صفة تاجر تجزئة يرغب في شراء كمية معتبرة من المتفجرات والألعاب النارية والشموع، ما سهَّل طريقة التواصل مع التجار الذين كان أغلبهم شباناً يعيشون على التجارة الموسمية.
بارونات المفرقعات.. أشباح و"موتى"
من خلال الحوار الذي جمعنا مع عدد من التجار، أجمعوا أنه لا أحد منهم يعرف المستوردين الحقيقيين للمفرقعات، وحتى الحاويات التي تخرج من الميناء، تمر على أكثر من ثلاثة وسطاء لتصل إلى "جامع ليهود"، لا يعرف أحدٌ منهم الآخر، لأنهم يحملون أسماء وألقاباً مستعارة، وتضاربت الآراء حول هوية المستوردين الذين وصفهم الكثير بأنهم "شخصيات نافذة" لا يحاسَبون ولا يُرفض لهم طلب، يملكون "عملاء" في كل مكان بداية من الباخرة إلى سوق "جامع ليهود" ومرورا بالميناء، يدفعون بسخاء، حاوياتهم لا تراقب وسلعتهم لا تُحجز، لأنهم بكل بساطة يعرفون كيف يفلتون من المتابعة، ولو تطلب الأمر توريط شبان أبرياء وحتى موتى.
وفي هذا الإطار، أكد أحد التجار الذي يعرف خبايا سوق "جامع ليهود" أن البضاعة التي يسوِّقها اشتراها من أحد جيرانه بـ50 مليون سنتيم، ولما سأل عن مصدرها، قال له الجار "أنا بدوري لا أعرف صاحب البضاعة، لأن الشخص الذي اشتريت منه، والذي تربطني معه علاقة قديمة في التجارة، قال لي إن صاحب الحاوية من "لمعاليم لكبار"، والذي يملك شبكة من العلاقات في ميناء الجزائر، وهو متخصص في استيراد المفرقعات منذ 10 سنوات...".
حتى المفرقعات المحجوزة تُباع في "جامع ليهود"
أكد لنا أحد التجار المتخصصين في بيع المفرقعات في سوق "جامع ليهود"، والذي يقارب سنه الستين عاماً، أنه على علاقة بأحد الأصدقاء العاملين بميناء الجزائر "حمّال"، وتمكن في الكثير من المرات من تسريب كميات معتبرة من المفرقعات المحجوزة، والتي كان ينقلها من الميناء في حقيبته، بالتواطؤ مع بعض العاملين بالميناء، الذين يغتنمون مناسبة المولد النبوي الشريف لبيع المفرقعات المحجوزة، والتي تعود عليهم بأرباح كبيرة، نظرا لارتفاع أسعار الألعاب النارية والمفرقعات بمختلف أنواعها، والتي يصل سعر الواحدة منها إلى 500 دينار "تي آن تي"، وأضاف أن التاجر بات يفرق بين السلعة المهربة في حاويات من الميناء، والتي تباع بالجملة لشخص أو شخصين على الأكثر وبشكل سريع، بينما تباع السلعة المحجوزة بشكل متقطع وبكميات صغيرة، لأنها تُسرب من المطار في حقائب.
وفي السياق ذاته، أكد العديد من التجار الذين تبادلنا نعهم أطراف الحديث، تسويق المفرقعات المحجوزة في "جامع ليهود"، والتي تباع بسعر أقل من تلك التي تُهرب بالحاويات، وهذا ما يثير العديد من الأسئلة حول وجهة المفرقعات المحجوزة في ميناء الجزائر، ومن هم الأفراد التي يهربونها في حقائب ويبيعونها في سوق الجملة؟
بيت "الصابون" لإخفاء ما يتم تهريبه
أين تخزن حاويات المفرقعات المهربة من الميناء؟ وكيف يتم نقلها باعتبارها مواد ممنوعة يعاقب عليها القانون؟ هي أسئلة وجدنا الإجابة عنها عند تجار سوق "جامع ليهود" الذين تطابقت شهاداتهم، فيما يتعلق بمكان تخزين البضاعة المحملة في الحاويات، والتي توضع حسبهم في "بيت الصابون" وهي عبارة عن غرف تبنى فوق أسطح العمارات، يتم فيها غسل الملابس، حوّلها العديد من السكان إلى بيوت وأكواخ مهجورة، استغلها بعض التجار لتخزين "كاركونات" المفرقعات والألعاب النارية المهرّبة داخل الحاويات، وهي أماكن آمنة وبعيدة عن الأنظار يصعب على مصالح الأمن وأعوان الرقابة الوصول إليها، وأحيانا يقوم بعض التجار باستئجارها من قاطني العمارة بمبالغ تتراوح بين 30 و50 ألف دج لمدة 15 يوما، وهي غرف موجودة فوق عمارات الأحياء الشعبية ببلدية باب الوادي، وبعض العمارات القديمة في القصبة.
الوسيلة الوحيدة للوصول إلى حاويات المفرقعات
يطلق تجار المفرقعات بـ"جامع ليهود" اسم "طريق" على الوسيط الذي يربطهم بصاحب الحاوية أو أحد أتباعه، فأثناء حديثنا مع أحد التجار حول أسعار المفرقعات والجديد منها، قال لصاحبه "لقد وجدت "طريڤ" إلى إحدى الحاويات لشراء 50 "كرطونا" من مختلف أنواع المفرقعات والألعاب النارية بسعر 350 مليون سنتيم، واتفقت مع أحد مالكي الشاحنات الصغيرة لجلب البضاعة المخزنة في إحدى المحلات التجارية القريبة من الميناء".
وعندما سألت المتحدث عن معنى كلمة "طريق" قال إنها عبارة تطلق على الوسيط الذي يربط التجار بأصحاب الحاويات، فالوسطاء لا يتعاملون بأسمائهم الحقيقية، بل يعتمدون على الألقاب والكلمات المشفرة، للحفاظ على هويتهم المجهولة، لأن تجارة المفرقعات تميزها العديد من المخاطر، والخطأ فيها يعني السجن والعقاب.
سجلات تجارية بأسماء الموتى
اعترف مسؤول الإعلام على مستوى المديرية العامة للجمارك، عبد الله طنام، لـ"الشروق" بصعوبة التحكم في استيراد المفرقعات، والتعرف على المستوردين الحقيقيين، لأنهم يعتمدون حسبه على "سجلات تجارية وهمية تحمل أسماء الموتى، للإفلات من المتابعة والعقاب، والعديد من الحاويات المحجوزة في ميناء الجزائر لم يتم التعرف على أصحابها الحقيقيين وبعد التحقيق تم اكتشاف تسجيل السجلات التجارية بأسماء الموتى"، وأضاف المتحدث أن بعض المستوردين يلجأون إلى استئجار السجلات التجارية من بعض الشبان مقابل مبالغ ضخمة، حيث يستعملون هذه السجلات في استيراد المفرقعات، وعند عملية الحجز يتم توريط الشبان المالكين للسجلات التجارية، حيث تكون نهايتهم المحاكمة والسجن.
المفرقعات المحجوزة تُحوّل إلى الجيش
وأضاف السيد طنام أن المفرقعات المحجوزة على مستوى ميناء الجزائر، والتي تحتوي على متفجرات متعددة الأخطار، وألعاب نارية يتم تحويلها إلى مصالح خاصة على مستوى الجيش الوطني الشعبي، ويتم التعامل معها على أساس النوعية، على غرار المتفجرات التي يتم استغلالها في بعض الاختبارات والتجارب، ومنها تتلف ويتمّ إحراقها، وأضاف أن مصالح الجمارك تعمل جاهدة على حصار بارونات استيراد المفرقعات، والذين لا يعرفهم أحد، لتقمّصهم شخصيات وهمية، وتوريطهم لعدد كبير من الشبان باستئجار السجلات التجارية التي تبقى الكثيرُ منها وهمية وغير معروفة المصدر، ما يتطلب إعادة النظر في قوانين وإجراءات فتح السجلات التجارية، خاصة تلك المتعلقة بالاستيراد والتصدير.
حجز 20 حاوية و30 مليون وحدة من المفرقعات
كما أكد مسؤول الإعلام على مستوى المديرية العامة للجمارك، طنام عبد الله، أن مصالح الجمارك تمكنت خلال العام الماضي من حجز أزيد من 20 حاوية من المفرقعات، كانت موجهة لإغراق السوق لإلهاب الاحتفالات بالمولد النبوي للسنة الجارية، والتي لا تفصلنا عنه سوى أيام قليلة، وأضاف أن ميناء العاصمة سجل أكبر نسبة من المحجوزات، والمقدرة بتسع حاويات من الحجم الكبير، كانت تحتوي على أزيد من 30 مليون وحدة من المفرقعات، وهذا ما يفسر تزايد نشاط مستوردي هذه المادة من الصين، والتي تدرّ عليهم الملايير. وكشف المتحدث أن نشاط مستوردي المفرقعات لا يقتصر فقط على ميناء الجزائر، بل امتد إلى مختلف موانئ الوطن لمحاولة الإفلات من قبضة الجمارك، وبالنسبة للحاويات التي يتم تسريبها من الموانئ، والتي تغذي أسواق الجملة، قال محدثنا إن الأمر "خارج عن مسؤولية الجمارك".
15 مستوردا للمفرقعات
من جهته، أكد الناطق باسم الاتحاد الوطني للتجار والحرفيين الجزائريين، الحاج الطاهر بلنوار، لـ"الشروق" أن تحقيقا قام به الاتحاد، بيّن أن بارونات استيراد المفرقعات لا يتجاوز عددهم 15 مستوردا، يعتمدون فقط على استيراد المفرقعات، باعتمادهم على سجلات تجارية وهمية، تحمل أسماء موتى أو مرضى على حافة الهلاك، وبيّن التحقيق حسب بلنوار، أن هؤلاء المستوردين يستغلون مناسبة المولد النبوي الشريف لإغراق السوق الوطنية بعدد كبير من حاويات المفرقعات، والتي تعود عليهم بأرباح تتعدى 15000 مليار سنتيم، وهو ما ينفقه الجزائريون للاحتفال بالمولد. وعن هوية المستوردين، قال بلنوار إنهم شخصياتٌ نافذة يملكون شبكة من "المعارف"، والأعوان على مستوى الموانئ والأسواق، وهم على ثقة بتسريب حاوياتهم من الميناء، وهو ما جعلهم ينفقون أموالا طائلة لاستيراد المفرقعات من الصين.
مراقبة الجمارك ضعيفة والبلديات متواطئة
وقد استغرب بلنوار الطريقة التي يتم بها تهريب عشرات، بل مئات الحاويات من الميناء، والتي تمول أسواق الجملة بأطنان من المفرقعات على مرأى من مصالح الأمن والسلطات العمومية، وأرجع المتحدث ذلك إلى المراقبة الضعيفة، وغير الكافية لمصالح الجمارك على مستوى الموانئ، والتي لا تملك أي تفسير للطريق التي تُسرب بها الحاويات من الميناء.
واتهم المتحدث "الأميار" بالتواطؤ مع تجار المفرقعات لأغراض انتخابية، لأن البلدية هي الجهة المسؤولة عن محاربة التجارة الفوضوية للمفرقعات، "هذا ما لا نراه على أرض الواقع، خاصة وأن القانون الجزائري يمنع تجارة المفرقعات منذ سنة 1963، وهو ما يجعل الأميار يتحملون مسؤولية تطبيق هذا القانون بالتنسيق مع مصالح الأمن، وصمت الأميار على التجارة الفوضوية يشجع على تجاوز القانون، ما يتطلب محاسبة البلديات التي ترفض محاربة التجارة الفوضوية، خاصة إذا تعلقت بمواد ممنوعة مضرة بالصحة".
30 ألف تاجر مفرقعات
كما أكد بلنوار أن تحقيقا لوزارة التجارة كشف عن وجود أزيد من 10 آلاف سجل تجاري وهمي، يعود لأشخاص موتى ومرضى، وتجار وجود لهم، وأضاف أن هذه السجلات تستعمل لاستيراد مواد ممنوعة على غرار المفرقعات والأجهزة المغشوشة، واللحوم المحرمة.. وتعرف السجلات الوهمية تزايدا مخيفا، وتحولت إلى سرطان تجاري يهدد الاقتصاد الوطني، ما يتطلب إعداد تحقيق عاجل لمكافحة هذه الآفة، التي يستغلها بارونات الاستيراد لإغراق السوق الوطنية بالممنوعات والمواد الفاسدة. وكشف بلنوار عن وجود 30 ألف شاب يعتمدون التجارة الموسمية للمفرقعات، ما يعطي صورة لعدد الحاويات المهرّبة من ميناء الجزائر، عبر شبكات مافيوية تعرف تقنيات التنكر، وأكد المتحدث أن الإتحاد الوطني للتجار والحرفيين الجزائريين سينظم، غداً السبت، ندوة لكشف أضرار المفرقعات على الاقتصاد الوطني، وفضح صمت السلطات الرسمية على هذه التجارة الممنوعة.
لماذا تغمض السلطات عينيها على تجارة المفرقعات؟
من جانبه، استغرب الأمين العام للفدرالية الجزائرية للمستهلكين، مصطفى زبدي، في تصريح لـ"الشروق"، صمت السلطات الوصية عن تجارة المفرقعات التي تحوَّلت إلى" تجارة شبه قانونية"، تنتشر في أغلب أحياء وشوارع الجزائر، أمام أعين مصالح الأمن والسلطات الرسمية، ما يثير العديد من التساؤلات عن عدم إقدام المصالح المعنية بوقف نشاط أسواق الجملة التي تسوق القناطير المقنطرة من المفرقعات، والمتواجدة في كل من "جامع ليهود" بالعاصمة و"العلمة" بسطيف"؟ وقال زبدي إن تجارة المفرقعات في الجزائر يكتنفها الكثير من الغموض والمصالح، وتحوَّلت إلى آفة تهدد المجتمع، وتتسبب سنويا بإصابات وعاهات خطيرة يذهب ضحيتها عددٌ كبير من الأطفال، وحتى الشبان.
وطالب بضرورة التحقيق في ظاهرة السجلات الوهمية، وتسليط أشد أنواع العقوبات على المتورطين الحقيقيين في استيراد المفرقعات، وتحدث زبدي عن المخاطر الصحية والبيئية والرعب الذي يخلفه استخدام هذه المفرقعات في المدارس والحافلات والشوارع، ناهيك عن الضرر الذي يسببه استهلاك هذه المواد الصينية الرديئة النوعية التي لا يزيد سعرها الأصلي عن دنانير معدودة، وتباع في الأسواق الجزائرية بأضعاف قيمتها، لتخدم مصلحة عصابة مجهولة تتلقى كل الدعم والتسهيلات.