ثبت بالبرهان صحة الأطروحة الآتية أنّ الفكر منفصل عن اللغة ؟ استقصاء بالوضع
طرح الإشكالية:
من البديهي أن نعبّر عن أفكارنا بلغة لتكون بذلك وسيلة تحمل أفكارنا للآخرين فيكون الإجماع مبدؤنا على أنّ اللغة شرط للوجود الإنساني لذلك قيل قديما إنّ الإنسان حيوان ناطق، فاللغة هي تلك القابلية التي يتوفّر عليها الإنسان لإبداع واستخدام الرموز بكيفيات متعدّدة وعند علماء النفس يطلقون معنى اللغة على مجموعة الإشارات التي يعبر بها عن الفكر فنحن عندما نتحدث مع الغير فإنه من الواضح أننا ننطق بألفاظ نرتبها حسب المعاني وعندما نتحدث لأنفسنا لا ننطق بالألفاظ ولكن نرتّب المعاني حسب الصور المنطوقة، مما يبدو أنّ كل تفكير يحتاج إلى تعبير وكل تعبير يحتاج إلى تفكير لكن هناك فكرة شائعة ترى بأنّ الفكر متّصل مع اللغة وأنّ هناك تناسُب بينهما بينما نجد نقيضها يؤكّد على أنّ الفكر منفصل عن اللغة وسابق عنها وإذا افترضنا أنّ الأطروحة القائلة أنّ الفكر منفصل عن اللغة أطروحة صحيحة فكيف يمكن الدفاع عنها وتبنيها.
محاولة حل الإشكالية:
عرض منطق الأطروحة:إنّ الفكر منفصل عن اللغة نظرا للمُسَلّمات الآتية حيث يرى:
فلاسفة الاتّجاه الثنائي أنّ الفكر منفصل عن اللغة فصلا واضحا ويعتبرون أنّ الفكر سابق ومتقدّم عن اللغة وأوسع منها وأنّ الإنسان يفكر بعقله أولا ثم بلسانه ثانيا لذلك قد تتزاحم الأفكار في ذهن الإنسان ولكن يعجز اللسان عن التعبير وهذا ما يجعل اللغة عائقا للفكر حيث يرى برغسون أنّ اللغة عاجزة عن مسايرة ديمومة الفكر لأنّ المعاني تتميز بالتطور السريع على عكس الألفاظ فإنّ تطوّرها بطيء، ثمّ إنّ الأفكار تتميز بالاتصال وهي وحدة عضوية مركبة بينما الألفاظ منفصلة ما يجعل اللغة قابلة للتحليل والتركيب بينما الفكر في ذهن صاحبه فيض من المعاني المنفصلة في تدفّق لا تسعه الألفاظ وهذا ما يجعل اللغة مُعرقلة للفكر حيث قيل:"الألفاظ قبور المعاني"، بالإضافة إلى ذلك أنّ الفكر لا يتميز عن اللغة فحسب بل اللغة تشوه الفكر أحيانا يقول برغسون اللغة تشوه مجرى الحياة النفسية. كما أنّ العلاقة بين الدال والمدلول المتعارف عليها عند الفلاسفة المحدثين وعلماء اللغة علاقة تحكيمية وهذا ما يؤدي إلى تجاوز الفكر بدلالة اللفظ أي أنّ الإنسان يمتلك سيلا من التصورات والمعاني المجهولة والغريبة التي لم يستطع الأفراد أن يتواضعوا على إيجاد أسماء لها يقول برغسون اللغة لا تسجل من الشيء سوى وظيفته الأكثر شيوعا ، وفي هذا يقول"فاليري"(أحد الشعراء الفرنسيين):"أجمل الأفكار تلك التي لا تستطيع التعبير عنها".
الدفاع عن منطق الأطروحة بحجج شخصية:من خلال التجارب اليومية ندرك أن هناك تمايز بين اللغة والفكر حيث أنّ الإنسان يفكر ثم يبحث عن العبارة المناسبة للتعبير عن مضمون فكره وهذا ما ذهب إليه أفلاطون حيث يرى أنّ الفكر الداخلي الصامت يقابل عنده اللغة التي هي أصوات خارجية كما أنّ الفرد أحيانا يعجز ولا يجد أيّ عبارة تستطيع ترجمة أفكاره منّا مرّ بتجربة التردّد أثناء كتابة رسالة أو مقالة فيتوقّف عن التعبير ليفكر أيّ الكلمات تناسب المعنى الذي يجول في خاطره كما أنّه قد يغير بعض العبارات ويشطبها ويغيرها بأخرى تبدو مناسبة لنا بل قد يعتذر البعض عن خطابه فيراه قصيرا لأنّ الألفاظ خانته وقصّرت الكلمات عن تبليغ المعنى والمشاعر ولذلك يقول برغسون:"نعتقد أننا نملك أفكارا أكثر مما نملك أصواتا"، ومَن منا لا يعرف العبارة المشهورة"إنّ الكلمات تعجز عن وصف شعوري كما أنّ الأدباء رغم امتلاكهم لغة غزيرة إلا أنهم يعترفون بعدم قدرة اللغة عن التعبير بصدق عن أفكارهم حيث يحلو للرومنسيين كثيرا أن يقولوا ما أرخس الحب إذا أصبحت كلمات اللغة تعجز عن نقل مشاعر الإنسانية والتعبير عما تعجز عنه اللغة ثم إنّ الإبداع الفني والعلمي يكشف عن عجز اللغة
عرض منطق الخصوم:يرى أصحاب الاتجاه الواحدي أنّ العلاقة بين الفكر واللغة علاقة اتصال ويؤكدون على الوحدة العضوية والتناسب بين اللفظ والمعنى وفي اعتقادهم لا وجود للمعنى إلا إذا تميز عن غيره من المعاني ولا يكون هذا التمايز إلا بعلاقة يدركها الإنسان سواء بالتعبير عنها أو بالإشارة إليها وهذا ما يسمح للغير إدراكها حيث يقول "آلان":"إنّ الإنسان الذي لا يعرف إلا الأشياء هو إنسان دون أفكار ذلك لأنّ الأفكار إنما توجد في اللغة"، وهذا ما ذهب إليه جون لوك الذي اعتبر أنّ اللغة علامات حسية تنزل عن الأفكار الموجودة في الذهن لهذا قيل:"الألفاظ حصون المعاني"وقد أثبت علم النفس أنّ الطفل في الوقت الذي يتعلّم فيه اللغة يبدأ في التفكير بمعنى كلما اتسعت الثروة اللغوية ازدادت قدرات الطفل على التعبير و التفكير حيث يقول هيجل اللغة وعاء الفكر ويضيف نحن نفكر داخل الكلمات
نقد خصوم الأطروحة:في الواقع نلاحظ تفاوتات بين اللغة والفكر إذ نجد في أنفسنا عدم التناسب بين قدراتنا على الأداء والتبليغ وهذا يعني أنّ الإنسان يفهم من معاني اللغة أكثر مما يُحسن من ألفاظها فنحن عندما يُحدّثنا شخص بلغة لا نتقنها نفهم الكثير مما يقول ولكن لا نستطيع مخاطبته بالمقدار الذي فهمناه، وهذا يؤكد عدم التناسب بين قدرتنا على الفهم وقدراتنا على التبليغ والمشكلة تبقى قائمة رغم امتلاكهم ثروة لغوية كبيرة فهم يعانون من مشكلة التعبير وهذا ما جعل الإنسان يلجأ إلى وسائل أخرى للتعبير عن مكوّناته كالرسم والموسيقى والمسرح حيث يقول الصينيون قديما:"إنّ الصورة أفضل من ألف كلمة" ثمّ إذا كانت اللغة واحدة كما يعتقد أصحاب الاتجاه الواحدي فلمّا لا تكون الأفكار واحدة.
حل الإشكالية:الأطروحة القائلة أنّ الفكر منفصل عن اللغة أطروحة صحيحة ويمكن الدفاع عنها والأخذ بها وتبنّيها فالفكر سابق عن اللغة ومنفصل عنها من الناحية المنطقية بحيث أننا نفكر ثم نتكلم، كما أنّ المعنى الواحد يمكن أن نعبّر عنه بألفاظ مختلفة وهذا ما يؤكد عجز اللغة عن مسايرة الفكر فالفكر يتميز بالحركية والحركة المتدفقة والمستمرة والمرونة والسيولة بينما اللغة وثابتة وجامدة واستخدامها غير مضبوط ولهذا نؤكد عدم تناسب الفكر واللغة.
منقول