ما بين منتصف القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين، انشغل المفكرون العرب بالحداثة وكيف يتعاملون معها، بين محبذ لها ومشجع على الدخول فيها، ومتخوف منها محذرا من مخاطرها ،الأولون كانوا ينتمون إلى التيار الليبرالي غالبا كشكيب أرسلان (1869-1945) و سلامة موسى (1887-1958) وقاسم أمين (1863 ـ 1908) وشبلي شميل (1850-1917) وفرح أنطوان (1874-1922) وطه حسين (1889-1973) وبعض المتنورين من التيار الإسلامي (الجماعة السلفية الإصلاحية) كرفاعة الطهطاوي (1801ـ 1872) (1)) والكواكبي (1854-1902) والأفغاني (1839-1897.(وكان لزياراتهم لأوروبا أو دراستهم بها أو معرفتهم للغات الأجنبية دور في تشكيل توجهاتهم الفكرية الحداثية، فيما المتخوفون والمعارضون كانوا من مشارب شتى فبعضهم عارضها من منطلق إسلامي متزمت وآخرون عارضوها من منطلق سياسي سلطوي أي خوفا من أن تؤثر الحداثة على امتيازاتهم السياسية والاقتصادية، والجهل بالحداثة كان وراء معارضة البعض لها.
كان الانفتاح على حداثة الغرب الذي دشن ما سمي بعصر النهضة العربية بمثابة الصدمة، نظرا لما كشفه من اتساع الهوة ما بين واقع العرب والمسلمين من جهة وما عليه أوروبا من حضارة وتقدم من جهة أخرى. وانشغل مفكرو تلك المرحلة بالسؤال (لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب والمسلمون ؟) وكيف يمكن اللحاق بالركب ؟.وهو نفس السؤال الذي يشغل (المتعولمين) العرب والمسلمين ذوي النزعة الوطنية منذ العقد الأخير من القرن العشرين.
شكلت تلك المرحلة- نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين(2) إرهاصات منعطف فكري في العالمين العربي و الإسلامي ،وكانت تبشر ببداية نهضة تحرر شعوب المنطقة من حالة التخلف والركود التي تعيشها ،"في تلك الحقبة لم يعد التحديث يعني إطلاقا الأخذ عن الغرب للانتفاض على الشرق،بل يصبح يعني مواجهة الغرب بحداثة خاصة بالإسلام".(3) إلا أن عوامل داخلية وخارجية لا داع للغوص فيها أعاقت مشروع النهضة العربية، بل أجهضت آنذاك بعض إنجازات الحداثة(4)، ونعتقد بأن أهم عوامل فشل مشروع فكر النهضة العربية هو فردانية دعوات الإصلاح والتحديث والتشتت بين مذاهب ومدارس فكرية متعددة ما بين عروبية وإسلامية ووطنية وبالتالي عدم وجود ناظم مشترك ،سواء على أساس إسلامي أو على أساس قومي،أيضا عدم القدرة على التمييز ما بين الحداثة (Modernization) والتغريب (Westernization)، فالحداثة لا تلغي الخصوصيات والهويات الوطنية بالضرورة، ولكن التغريب قد يؤدي لذلك،فاليابان اقتحمت عالم الحداثة بقوة دون أن تلغي خصوصياتها الثقافية .
واليوم وبعد قرن من الزمن وكأن التاريخ يعيد نفسه، فنفس القضايا التي شغلت مفكري ذلك العصر: المرأة، الحرية، الإصلاح السياسي، النهضة الاقتصادية، تجديد الخطاب الديني وتحديث التراث الخ، تتكرر اليوم ولكن في ظل فجوة معرفية وحضارية بيننا وبين الغرب أكثر اتساعا، وفي ظل أوضاع سياسية وثقافية أكثر تشرذما وإحباطا وفي ظل تعدد للمواقف الفكرية للمثقفين من العولمة. تساؤلات ما قبل قرن من الزمن كانت تدور حول الحداثة أهي التغريب المهدد لهويتنا وثقافتنا؟ وتساؤلات اليوم تدور حول العولمة أهي الأمركة المهددة لثقافتنا وحضارتنا؟. فهل سنتعلم من التاريخ ولا نكرر أخطاء الماضي؟ أو سنفكر بطريقة مختلفة مستمدة من منطق العولمة ذاته، مؤداها أنه لا مكان في عصر العولمة للكيانات الصغيرة ،وهذا يتطلب عولمة العالم العربي أولا ثم الدخول في عصر العولمة الكونية .
من هذا المنطلق يصعب مقاربة ظاهرة العولمة وانعكاساتها على العالم العربي دون ربط الموضوع بالثقافة، سواء بمفهومها الضيق الذي يتماهى مع مفهوم الهوية، أو بمفهومها الشامل الذي يتطابق مع مفهوم الحضارة – البعدين المادي والمعنوي للثقافة- والذي اخذ اليوم طابع الصراع الحضاري. و هذا الربط له مسوغاته نظرا لتزامن تدافع تنظيرات العولمة ومأسستها اقتصاديا وثقافيا وسياسيا وإعلاميا مع أزمة عميقة تشهدها مجتمعاتنا، أزمة شرعية مستعصية ،أزمة النظم السياسية و الاقتصادية والثقافة ،وأزمة التضامن العربي ولا نقول الوحدة العربية، وفي ظل مد أصولي لم تعرفه المنطقة سابقا. ومجتمع مأزوم بهذه الدرجة ينتابه خوف من كل ما هو جديد ووافد من الخارج، الخوف والحذر من كل ما هو وافد يؤدي للانغلاق على الذات والهوية والحنين للماضي قبل أي تفكير وتمحيص عقلاني لهذا الوافد الجديد، ولكنها للأسف ذات مأزومة وهوية مأزومة،وبالتالي ينطبق المثل القائل (كالهارب من الرمضاء إلى النار).
لا شك أن لهذا الخوف ما يبرره نظرا لتزامن الحديث عن العولمة مع عصر يشهد مؤشرات نهاية كثير من الأفكار والمنظومات السياسية والاقتصادية والفكرية التي شغلت العالم خلال القرن العشرين وما سبقه، بل يمكن القول إن العولمة هي تكثيف وتجميع وتسريع لنهايات وما بعديات، ما بعد الاشتراكية والشيوعية وما بعد الرأسمالية والليبرالية بمفاهيمهم التقليدية وما بعد السيادة الوطنية وما بعد الاستقلال وما بعد الشرعية الدولية وما بعد الثورة الصناعية وما بعد الثقافة المكتوبة وما بعد العلمانية، الخ. العولمة هي عصر "يلهث فيه قادمه يكاد يلحق بسابقه ، وتتهاوى فيه النظم والأفكار على مرأى من بدايتها، وتتقادم فيه الأشياء وهي في أوج جدتها،عصر تتآلف فيه الأشياء مع أضدادها"(5).هذه النهايات إن كانت لا تثير كثير قلق عند دول الشمال المتقدمة، فالأمر مغاير عند المجتمعات العربية والإسلامية حيث صوت الأموات فيها أقوى من صوت الأحياء، والحنين للماضي يطغى على التطلع للمستقبل، والأهم من ذلك يصعب الحديث عن نهايات فيما المجتمعات العربية لم تستكمل بناء الدولة ولم تنجز هدف الاستقلال، لا السياسي ولا الاقتصادي. ولكن ... الخوف ليس مبررا للهرب بل يجب أن يكون دافعا للتحدي والمواجهة.
نروم من بحثنا هذا تسليط الضوء على ظاهرة العولمة من حيث تعريفها مفاهيمياً والتحديات التي تفرضها على مجتمعاتنا العربية، والفرضية التي سنحاول إثباتها أو البرهنة عليها هي أن العولمة ليست سيئة بالمطلق ولا جيدة بالمطلق، كما أنها ليست خيارا مطروحا على الدول والمجتمعات يمكنها الأخذ بها أو تجاهلها، بل هي نتاج لتحولات متدرجة عرفها العالم خلال عقود طويلة بل خلال قرون، تحولات هي في جانب منها بمثابة تطور طبيعي ومنطقي لترتيبات وأوضاع سابقة، وفي جانب أخر مخطط لها بحيث تأخذ مسارا يخدم قوى محددة ذات مصالح كبرى، ومن جانب ثالث تحولات مفروضة بفعل تفاعلات داخلية ودولية، وبالتالي نعتبر العولمة تحد يجب مواجهته للاستفادة من إيجابياتها أو التقليل من مخاطرها.كما نفترض بأن شرط النجاح في معركة تحدي العولمة يكمن في البدء بـ (عولمة العالم العربي) على أسس جديدة حتى لا تبتلعنا العولمة ولا يغيبنا الشرق الأوسط الكبير الذي هو آلية من آليات العولمة بالتوجه الأمريكي.أما المنهج الذي سنحاول الاسترشاد به فهو يجمع ما بين المنهج التحليلي المقارن والمنهج النسقي...تبع...ان شاء الله...