لم يبق في أرباب الأقلام ومنتحلي صناعة الإنشاء من امتنا من لم يشعر بما صارت إليه لغتنا في عصرنا الحالي من التقصير في خدمة أهلها والعقم بحاجة ذويها حتى لقد ضاقت معجماتها بمطالب الكتاب والمعربين حيث أصبحت الكتابة في العديد من الأغراض ضربا من شاق التكليف فلغتنا الحبيبة التي طالما شهد لها حتى أعداؤها بأنها أغزر الألسنة وأوسعها تعبيرا وأطوعها للمعاني تصويرا قد أفضت اليوم الى حال لو أراد الكاتب فيها ان يصف ما في حجرته او مكتبه لم يكد يجد ما يكفيه من زاد التعبير فضلا عما وراء دلك من مصانع وعيادات طبية وأسواق ومخابر والتي فيها من صنوف المستحدثات ما لها من المصطلحات التي لا تغادر جليلا ولا دقيقا الا وتدل عليه بلفظه المخصوص مما لا يجد لسان الإنسان العربي من سبيل لتمثيله بلفظ من قاموس لغته او لهجته إذ يجد نفسه مجبرا إما على تكلف لسان الغرب أو تعريبها بشكل يستوحشه السمع ويستثقله القياس في كثير من الأحيان !
فيا ليت شعري هل أغناه عن موقفه هدا ما عنده من ثمانين اسما للعسل ومائتي اسم للخمر وخمسمائة للأسد وألف للسيف ومثلها للجمل وأضعافها للداهية والغبي ! ...
ورغم كل ما أسلفت ذكره وما لم أزل أنعاه عن لغتنا مند حين الا أنني سبرت غورها وقست مبلغ استعدادها فعلمت انها لا تزال فيها بقية صالحة لان تجاري أوسع اللغات وأكثرها مادة ولكن أدركها من دلك وارد من قبل الأمة وتخلفها عن ركب الحضارة إذ أن اللغة بأهلها ، تشب بهم وتهرم بهم أيضا وهي مرآة أحوال الأمة وصورة لتمدنها وسجل ما لها من العلوم والآداب والفنون والمبتكرات وانما تضع منها على قدر ما تقتضيه حاجتها للخطاب.
ومن البديهي ان اللغة العربية كغيرها من لغات العالم لم توضع دفعة واحدة وانما شيئا بعد شيء على قدر ما تدعو اليه حاجة المتكلمين بها حيث اختصت بمزية عزت ان توجد في غيرها هي ان اكثر الفاظها مأخوذ بالاشتقاق اللفظي او المعنوي ما جعلها لا تضاهى في الاتساع والصيغ والأبنية على كونها اقل اللغات أوضاعا فضلا عما فيها من تشعب استعمال المجاز واعتبارا على ما سبق وبالرجوع الى ما كانت عليه اللغة زمن الجاهلية يوم كان ناطقوها اهل بادية بيوتهم خيم شعر وافرشتهم بوالس وبواري وأثاثهم الرحى والقلل والدسائع والقدور والقرب وحياتهم رعي وثار تميزت بخشونة اللفظ ثم تحررت بمجيء الاسلام شيئا فشيئا تباعا لطباع ناطقيها وتغير حياتهم لتبلغ اوج رقيها في عهد الخلفاء من بني عباس بعد استتباب الفتوحات وتفتح الامة على طلب العلوم وتبسطها في الفنون وذهابها الى ابعد مذاهب المدنية انذاك فصقلت الاذواق وهذبت الألفاظ وخدمت اللغة أهلها على أحسن وجه حيث اشتقوا منها على حالها ما لم يكن معروفا وادخلوا عليها كثيرا من مصطلحات الأمم التي جتاحتها حضارتهم شرقا وغربا ولم تنضب مواردها دونهم الى أن تبدلت الأدوار والأطوار وتوالت انكسارات هده الأمة وتتابعت محنها حتى اندرست أعلام حضارتها وتقزمت ثقافتها بما فيها لغتها التي زالت تدريجيا عن الألسنة بزوال مضاربها ومن ثمة يمكن القول ان هرم لغتنا إنما هو نتاج لهرم الأمة .