أثر الإسلام في الشعر
على الرّغم من استسلام العرب لبلاغة القران ومبادئ الإسلام، و انصرافهم إلى الفتوحات و محاربة الدين الجديد للعصبيّات، و انحطاط مكانة الشّعراء الذين تكسّبوا بالشّعر، و هجوا به هجاءً فاحشاً أو تغزلوا غزلاً ماجناً؛ فإنّ مكانة الشعر ظلت كما هي في صدر الإسلام غير أنّ القصيدة العربيّة أصابها بعض التّطوّر و التغيّر على الرّغم من أنّها حافظت حافظت على أغراض الشّعر التّقليديّة. فعلى صعيد المديح برز ما يسمّى بالمديح النّبويّ و أوّل من بدأه حسّان بن ثابت الأنصاريّ في مدح الرّسول الكريم، فقد مدحه بالجمال المطلق و العظمة المتناهية و الكمال في الصّفات و البراءة من العيوب، فكأنّه خُلق كما يريد:
و أجمل منك لم ترَقطُّ عيني و أعظم منك لم تلدِ النّساءُ
خُلِقتَ مبرّأً من كلّ عيب كأنّك قد خُلِقتَ كما تشــاءُ
كما برز في هذا الميدان الدّفاع عن العقيدة الجديدة وقد برز أيضاً في شعر حسّان بن ثابت الذي أظهر أنّها من عند الله و جاءت بالحقّ، و تنفع عند الاختبار لكنّ كفّار قريش رفضوا قبولها و نصرة نبيّها مع أنّ الله يشهد أنّه رسول من قبله:
و قال الله قد أرسـلتُ عبداً يقول الحقّ إنْ نفع البلاءُ
شهدتُ به فقوموا صدّقوه فقلتم لا نقوم و لا نشـاءُ
ومن جملة ما تناولته القصيدة العربيّة في هذا العصر وصف معارك الفتوح و تصوير البطولات الفرديّة و الجماعيّة، و الافتخار بالشّجاعة و حسن البلاء و الثبات في المعارك الشّديدة و تصوير هولها يقول بشر بن ربيعة الخثمعيّ وقد شهد القادسيّة:
تذكّر -هداك الله- وقع سـيوفنا بباب قديسٍ و المكرُّ عسيرُ
عشية ودَّ القوم لو أنّ بعضهم يُعـار جناحـيَّ طائرٍ فيطيرُ
وأمّا الفخر فقد استمرّ في هذه المرحلة بنوعيه الذّاتي و الجماعي فأمّا الفخر الذّاتي فقد اعتمد على القيم الإيجابيّة الموروثة من شجاعة و كرم و عفّة و نصرة للمظلوم، و إغاثة للملهوف، ويضاف إلى ذلك الافتخار بالإيمان و الحرص على التّقوى و المشاركة في الجهاد و الخوف من النّار، يقول النّابغة الجعديّ:
أقيم على التّقوى و أرضى بفعلها و كنت من النّار المخوفة أحذرا
كما افتخر حسان بلسانه القاطع لألسنة شعراء قريش و بعظمة شاعريّته التي تشبه بحراً لا تستطيع الدّلاء أن تعكره، فقال:
لساني صارمٌ لا عيب فيهِ و بـحـري لا تـكـدِّرهُ الــدِّلاءُ
و أمّا الفخر الجماعي فقد كان بالإيمان بالله و بالرسّول وبالدّين و بالأمّة التي بدأت تولد؛ فهذا حسّان بن ثابت يفتخر بشجاعة المؤمنين الذين سيشنّون حرباً شديدة على قريش فيقول:
عدمْنا خيلنا إن لم ترَوْها تثير النقع موعدها كداءُ
و أمّا الهجاء فقد استمرّ معتمداً على ذمّ القيم السّلبيّة كالبخل و الجبن، و بالحرمان من القيم الإيجابيّة كالكرم و الشّجاعة؛ و حسّان في هجائه قدّم المعاني المألوفة في الهجاء و أضاف إليها بعض المعاني الجديدة التي تسخر من قريش لأنّهم أهل كفر و شرّ و أنّهم بعيدون عن الإيمان و التّقوى و الخير فقال يردّ على شاعرهم:
أتهجوه و لستَ له بكفءٍ فشرّكما لخيركما الفداءُ
و إذا ما تأمّلنا المديح في هذه المرحلة وجدناه قد بقي بمعانيه التّقليديّة؛ فقد ظلّ الشّعراء يمدحون بالقيم الإيجابيّة كالشّجاعة و الكرم و غير ذلك و لكن أضيف إليها المديح بالإيمان و إتّباع الخير و التزام تعاليم الدّين الجديد. و في الرّثاء استمرّ الشّاعر يرثي بإظهار الصّفات الحسنة للمرثيّ و إبعاد الصّفات السّيّئة عنه و إبداء الحزن و الألم و الحبّ نحوه، و بالإضافة إلى ذلك و بتأثير من الواقع الجديد فقد تضمّن الرّثاء معانيَ جديدةً مثل رحمة الله و نيل جنّته و الاستسلام للقضاء و القدر؛ فهذا أبو ذؤيب الهذلي يرثي أبناءً فقدهم في عام واحد فأظهر حسرته و دموعه التي لا تتوقف، وهذا من المعاني القديمة، و أضاف إلى ذلك استسلامه لقضاء الله و قدره، و هذا من المعاني الجديدة:
أودى بنيّ و أعقبوني حسرة بعد الرّقاد و عبرةً لا تقلعُ
و فيما يخصّ الحكمة و التأمّل، و هذا الغرض قديم في الشّعر العربي و كان زهير بن أبي سلمى من أبرز شعرائه في الجاهليّة، قد تجدّد في صدر الإسلام حين اعتمد على القيم الجديدة، كما يبدو عند الشّاعر عبدة بن الطّبيب و هو ينصح أولاده بتقوى الله و الاستسلام له و الرّضى بعطائه و منعه:
أوصيكم بتقى الإله فإنّه يعطي الرّغائب من يشاء و يمنعُ
كما دعاهم إلى برّ الوالديّن أي: الإحسان إليهما و إطاعة أوامرهما:
وببرّ والدكم و طاعة أمره إنّ الأبرّ من البنين الأطوعُ
و هكذا نجد أنّ الشعرّ العربي قد أصاب أغراضه بعض التّغيير و التّطوّر بتأثير من العقيدة الجديدة؛ فأضيفت إليه معانٍ مستحدثةٌ إضافةً إلى المعاني القديمة ممّا جعل الشّعر يزدهر في ظلّ العقيدة الإسلاميّة التي أكّدت تأثيراتها على أنّها لم تكن مجرّد عقيدة دينيّة و إنّما نظام اجتماعيّ و فكريّ شمل جميع مرافق الحياة.