{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2], إنها الليلة المباركة في كتاب الله عز وجل, يقول الله تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان: 1-6].
وقد صح عن ابن عباس, وقتادة, وسعيد بن جبير, وعكرمة, ومجاهد, وغيرهم من علماء السلف ومفسريهم: أن الليلة المباركة هي ليلة القدر وفيها أنزل القرآن. وفيها يفرق كل أمر حكيم, أي: يكتب, ويفصل. وقيل: إن المعنى أنه يبين في هذه الليلة للملائكة.
وقيل: تقدر فيها مقادير الخلائق على مدى العام, فيكتب فيها الأحياء والأموات, والناجون والهالكون, والسعداء والأشقياء, والحاج والداج, والعزيز والذليل, ويكتب فيها الجدب والقحط, وكل ما أراده الله تبارك وتعالى في تلك السنة.
والظاهر –والله أعلم- بكتابة مقادير الخلائق في ليلة القدر: أنه ينقل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ؛ ولذلك قال ابن عباس -رضي الله عنها-: "إن الرجل ليمشي في الناس وقد رُفع في الأموات", ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} قال: يفرق فيها أمر الدنيا من السنة إلى السنة[1].
تسميتها بليلة القدر
قال الله عز وجل عنها في السورة الخاصة بها: {إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر} [القدر: 1-5][2].
ففي تسميتها بذلك أقوال خمسة:
أحدها: لعظيم قدرها, وجلالة مكانتها عند الله عز وجل وكثرة مغفرة الذنوب, وستر العيوب في هذه الليلة المباركة. قال الزهري: القدر العظمة من قولك: لفلان قدر. ويشهد له قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91].
الثاني: قال الخليل بن أحمد: إنه من الضيق أي هي ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة الذين ينزلون. ويشهد له قوله تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7].
والثالث: قال ابن قتيبة: إن القدر الحكم، كأن الأشياء تقدر فيها.
والرابع: قال أبو بكر الوراق: لأن من لم يكن له قدر صار بمراعاتها ذا قدر.
والخامس: قال علي بن عبيد الله: لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر, وتنزل فيها رحمة ذات قدر, وملائكة ذوو قدر.
فضائل ليلة القدر
1- أنها خيرٌ من ألف شهر:
قال تعالى: {لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]. قال مجاهد: عملها وصيامها وقيامها خيرٌ من ألف شهر.
2- نزول الملائكة والروح فيها:
قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4]. قال البغوي: قوله عز وجل: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} يعني جبريل عليه السلام معهم، {فِيهَا} أي: ليلة القدر، {بِإِذْنِ رَبّهِم} أي: بكل أمرٍ من الخير والبركة[3].
وقال ابن كثير: أي: يكثر تنزُّل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها, والملائكة يتنزلون مع تنزّل البركة والرحمة, كما يتنزلون عند تلاوة القرآن, ويحيطون بحِلَقِ الذكر, ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدقٍ تعظيمًا له[4].
3- أنها سلام إلى مطلع الفجر:
قال تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5][5], عن مجاهد في قوله: {سَلامٌ هِيَ} قال: سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا أو يعمل فيها أذى.
قال ابن الجوزي: وفي معنى السلام قولان:
أحدهما: أنه لا يحدث فيها داء ولا يُرسَل فيها شيطان, قاله مجاهد.
والثاني: أن معنى السلام: الخير والبركة, قاله قتادة, وكان بعض العلماء يقول: الوقف على {سَلامٌ}, على معنى تنزُّل الملائكة بالسلام[6].
4- من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه:
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله قال: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه, ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه"[7].
قال ابن بطال: ومعنى قوله: "إيمانًا واحتسابًا" يعني مُصدِّقًا بفرض صيامه, ومصدقًا بالثواب على قيامه وصيامه,[8] ومحتسبًا مريدًا بذلك وجه الله, بريئًا من الرياء والسمعة, راجيًا عليه ثوابه.
قال النووي: معنى (إيمانًا): تصديقًا بأنّه حق, مقتصد فضيلته, ومعنى (احتسابًا): أن يريد الله تعالى وحده, لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص, والمراد بالقيام: صلاة التراويح, واتفق العلماء على استحبابها[9].
تحري ليلة القدر
يستحب تحريها في رمضان, وفي العشر الأواخر منه خاصة, كما قال الرسول الله : "التمسوها في العشر الأواخر"[10].
وثبت هذا من حديث عبد الله بن عمر وأبي سعيد, خاصة في أوتار العشر الأواخر, وهي ليلة إحدى وعشرين, وثلاث وعشرين, وخمس وعشرين, وسبع وعشرين, وتسع وعشرين.
وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنه- وهو في الصحيح أيضًا قال: "في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى"[11]. فبيَّن عليه الصلاة والسلام أنها أرجى ما تكون في الأوتار من العشر الأواخر.
وفي البخاري من حديث عُبَادَةَ بْن الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ, فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ -أي: تخاصم رجلان- مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: "إني خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ, وَإِنَّهُ تَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمُ الْتَمِسُوهَا في السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْسِ"[12]. وهذا دليل على شؤم الخصومة في غير حق, خاصة الخصومة في الدين وعظيم ضررها, وأنها سبب في غياب الحق وخفائه على الناس.
ولذلك جاء عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ النبي أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ في الْمَنَامِ في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ, فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ"[13].
ومعنى قوله : "أرى رؤياكم قد تواطأت" أي اتفقت, فكأنهم رأوها في المنام, إما جاءهم أحد وأخبرهم أنها في السبع الأواخر, أو رأوا في المنام أن ليلة القدر تكون في السبع الأواخر, فأمر النبي بتحريها في هذه السبع الأواخر, خاصة في ليلة سبع وعشرين؛ فإنها أرجى ما تكون ليلة سبع وعشرين.
بل جاء عن النبي من حديث ابن عمر عند أحمد ومن حديث معاوية عند أبي داود أن النبي قال: "ليلة القدر ليلة سبع وعشرين"[14].
وليلة القدر أرجى ما تكون ليلة سبع وعشرين؛ للحديثين السابقين, ولأن هذا مذهب أكثر الصحابة وجمهور العلماء, حتى إن أبي بن كعب رضي الله عنه كان يحلف على ذلك -كما في صحيح مسلم-. وكذلك ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إنها ليلة سبع وعشرين, وله استنباطات:
منها: أن كلمة "فيها" من السورة: هي الكلمة السابعة والعشرون.
ومنها: ما ورد أن عمر -رضي الله عنه- لما جمع الصحابة, وجمع ابن عباس معهم, فقالوا لابن عباس: هذا كأحد أبنائنا، فلماذا تجعله معنا؟ فقال: إنه فتى له قلب عقول, ولسان سئول, وأثنى عليه, ثم سأل الصحابة عن ليلة القدر, فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر.
فقال لابن عباس, فقال: إني لأعلم أو أظن أين هي, إنها ليلة سبع وعشرين. فقال: وما أدراك؟ قال: إن الله تعالى خلق السموات سبعًا, وخلق الأرضين سبعًا, وجعل الأيام سبعًا, وخلق الإنسان من سبع, وجعل الطواف سبعًا, والسعي سبعًا, ورمي الجمار سبعًا. ولذلك رأى ابن عباس أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين, وكأن هذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وبعض العلماء قالوا: إن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين؛ لأن كلمة ليلة القدر تسعة حروف, وقد ذكرت في السورة ثلاث مرات, والنتيجة ثلاث في تسع (سبع وعشرون), ولم يرد دليل شرعي على أن مثل هذه الحسابات يمكن أن يعرف بها ليلة القدر.
والله تعالى أعلم أن ليلة القدر تتنقل من ليلة إلى أخرى, فغالبًا ما تكون ليلة سبع وعشرين, لكن قد تكون ليلة إحدى وعشرين أحيانًا, كما في حديث أبي سعيد قال: اعتكفنا مع النبي العشر الأوسط من رمضان، فخرج صبيحة عشرين فخطبنا وقال: "إني أريت ليلة القدر، ثم أنسيتها أو نسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر, وإني رأيت أني أسجد في ماء وطين، فمن كان اعتكف مع رسول الله فليرجع". فرجعنا وما نرى في السماء قزعة, فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد, وكان من جريد النخل وأقيمت الصلاة فرأيت رسول الله يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته[15].
أي أنها كانت ليلة إحدى وعشرين, وتكون في الغالب ليلة سبع وعشرين.
ما يستحب في ليلة القدر
يستحب الإكثار في ليلة القدر من الدعاء, خاصة الدعاء الذي علمه النبي عائشة -رضي الله عنها- حين قالت: إن أريت ليلة القدر ماذا أقول؟ قال لها النبي : "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني, اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"[16].
فيسْتَحَبُّ الاجْتِهَادُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ : "الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ". وَإِنَّمَا تُلْتَمَسُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ لا بِأَنَّ لَهَا صُورَةً وَهَيْئَةً يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا بِخِلافِ سَائِرِ اللَّيَالِي كَمَا يَظُنُّ بعض الناس, إنَّمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَنَزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3، 4], وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 3-5]. فَبِهَذَا بَانَتْ عَنْ سَائِرِ اللَّيَالِي فَقَطْ، وَالْمَلائِكَةُ لا يَرَاهُمْ أَحَدٌ بَعْدَ النَّبِيِّ .
علامات ليلة القدر
العلامة الأولى: ثبتت في صحيح مسلم من حديث أُبَيّ أن النبي ذكر أن من علامتها أن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها. وهذا ثابت.
الثانية: ثبتت من حديث ابن عباس عند ابن خزيمة, ورواه الطيالسي أيضًا في مسنده, وهو حديث صحيح, سنده صحيح أن النبي قال: "ليلة القدر ليلة طلقة, لا حارة ولا باردة, تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة".
الثالثة: ما ثبت عند الطبراني بسند حسن من حديث واثلة بن الأسقع أن النبي قال: "إنها ليلة بلجة -يعني منيرة مضيئة- لا حارة ولا باردة, لا يرمى فيها بنجم". يعني لا ترى فيها هذه الشهب التي ترسل على الشياطين.
وذكر بعض أهل العلم علامات أخرى لا أصل لها, وليست صحيحة, إنما أذكرها لبيان أنها لا تصح, كما ذكر الطبري عن قوم أنهم قالوا: إن من علامات ليلة القدر أن الأشجار تسقط حتى تصل إلى الأرض, ثم تعود إلى أوضاعها, وهذا لا يصح.
وذكر بعضهم أن المياه المالحة تصبح حلوة في ليلة القدر, وهذا لا يصح.
وذكر بعضهم أن الكلاب لا تنبح فيها, وهذا لا يصح.
وذكر بعضهم أن الأنوار تكون في كل مكان حتى في الأماكن المظلمة, وهذا لا يصح.
وذكروا أن الناس يسمعون التسليم في كل مكان, وهذا لا يصح إلا أن يكون المقصود بذلك أنه لفئة خاصة ممن اختارهم الله تعالى وأكرمهم, فيرون الأنوار في كل مكان, ويسمعون تسليم الملائكة, فهذا لا يبعد أن يكون كرامة لمن اختارهم الله تعالى واصطفاهم في هذه الليلة المباركة, التي هي خير من ألف شهر, أما أن يكون هذا عامًّا فهذا باطل, وهو معارض لدلالة الحس المؤكدة الثابتة ومشاهدة العيان.
العلم بليلة القدر
ليس من الضروري لمن أدرك ليلة القدر أن يعلم أنها ليلة القدر؛ بل قد يكون ممن لم يكن له منها إلا القيام والعبادة والخشوع والبكاء والدعاء من هم أفضل عند الله تعالى, وأعظم درجة ومنزلة ممن عرفوا تلك الليلة؛ فالعبرة هي بالاستقامة, ولزوم الجادة, والتعبد لله عز وجل والإخلاص، كما ذكره طائفة من أهل العلم.
وليلة القدر ليست خاصة لهذه الأمة على الراجح, بل هي عامة لهذه الأمة وللأمم السابقة؛ لما رواه النسائي عن أبي ذر أنه قال: يا رسول الله، هل تكون ليلة القدر مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت؟ قال عليه الصلاة والسلام: "كلا، بل هي باقية"[17].
د. سلمان بن فهد العودة .