خصــائــــــص الأســــــــرة الفـــــاضــــــلـــة
إن الأسرة هي الركن الرئيس في بناء المجتمع، بين أحضانها ينشأ الأفراد ومن خلالها تتكون شخصياتهم الخاصة·
وفي الشريعة الإسلامية نجد كل المقومات الأساسية التي تهتم بالجانب الروحي والعقلي والوجداني والأخلاقي والاجتماعي التي تحقق توازن الأسرة داخل المجتمع وتماسك بنيانها·
ونظرا للدور الكبير الذي تشكله الأسرة في المجتمعات نالت اهتمام كثير من الدارسين والباحثين، أدباء وفقهاء وعلماء نفس وعلماء اجتماع وتاريخ، وذلك لاعتبارها أصل الحياة الاجتماعية، ولبنتها الأولى·
وقد اهتم القرآن الكريم بالنظام الأسري منذ بدء الخليقة الأولى وسيبقى ذلك الاهتمام على مر الأزمان، لأن الخطاب الإلهي خطاب عالمي، ليس مقصورا على زمان أو مكان أو نوع بشري بل هو عام لكل الناس· وهذا يظهر من خلال سرد قصة خلق آدم وحواء وزواجهما وهبوطهما من الجنة إلى الأرض بغية تحقيق العمارة والخلافة فيها عبر تناسل أسري متواصل· لذلك يمكن القول إن أول أسرة بشرية كانت على وجه الأرض هي أسرة آدم وحواء، وكانت بدايتها من زوجين: رجل وامرأة·
ولهذا دلالة قوية تشير إلى أن المجتمعات البشرية كانت بدايتها أسرة قاعدتها الزواج وهو المشار إليه في قوله تعالى: { يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} >النساء -1<
والأسرة الفاضلة هي التي التزمت بالتقوى وفهمت التصور الصحيح الذي رسمه الإسلام لحياة الإنسان في جميع أطوار حياته، لأن الفرد مكون أساسي للأسرة، فإذا صلح أفرادها صلحت وإذا فسد أفرادها فسدت·
ومن التكريم الإلهي لبني آدم أن حرره عقلا وإرادة من دون تحيز أو تميز لذكرأ وأنثى لقوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} >الإسراء - 70<·
والتفضيل عام ويشمل كل الجوانب الخلقية والخلقية وأسباب الحياة، وسير الكون لبني الإنسان، هذا الذي ثبت بفضل التشريع الرباني عبر رسالات الأنبياء والرسل التي توجه وترشد الناس إلى صلاح دنياهم وأخراهم·
والإسلام هو خاتم الرسالات انطلق من تصور فكري متكامل للمجتمع وواقعه وكيفية تغييره، ولم يكن ثمة فصل لا في الجوهر ولا في الفرع لمكونات المجتمع، بل إن الوحدة كانت هي المقصد، >وعلى هذا كان الأساس الفكري الذي يقوم عليه الإسلام يعتمد على ركائز إنسانية تناسب كل البشر وحسب مراحل تطورهم ومنها:
أولا: اعتقاد كل مسلم بكرامة الإنسان أيا كان نوعه·
ثانيا: وحدة الجنس البشري، بخلق البشرية كلها من نفس واحدة·
ثالثا: إن التمايز عند الله لا يكون بين الأفراد إلا بالتقوى والعمل الصالح الذي يمكنه أن يترك آثارا إيجابية على المجتمع ·
رابعا: التسامح وكفالة حق الحرية والاختيار وحرية الاعتقاد والتعبد· فكل ذي دين ومذهب لا يجبر على تركه لغيره"(3)·
إن الحديث عن خصائص الأسرة الفاضلة يشمل أساسا الحديث عن الإطار الشرعي والقانوني الذي لأجله تكونت هذه العلائق الأسرية ألا وهو الزواج·
فقبل تحديد طبيعة هذه الخصائص لابد من الإشارة إلى غايات ومقاصد الزواج الشرعي في الإسلام·
1- مرتكزات أساسية في إنشاء الأسر:
يعتبر الزواج الطريق الشرعي لبناء الأسرة وإنجاب الذرية وإحصان النفس، حسب ما أثبته الحق تعالى في محكم تنزيله·
ولا يشكل الزواج في الشريعة الإسلامية عقدا اجتماعيا فحسب بل كما تتحقق بالزواج المصالح المدنية والعمرانية تتحقق به أيضا المصالح الدينية، والروحية، فهو طريق إلى صون أخلاق المجتمع وتطهيره من الرذائل·
لذلك جاء وصفه في القرآن الكريم بالميثاق لقوله تعالى: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا} >النساء-21<·
فكلما وردت كلمة ميثاق في القرآن الكريم إلا وتعلق الأمر بشيء عظيم تجلت أهميته في تحديد مسار البشرية من المواقف الحاسمة· إذن فالميثاق رباط وعقد يشد طرفين إلى بعضهما بعضا بمحض اتفاقهما، وينتج من الإخلال به نتائج سلبية تتعدى هذين الطرفين ألا وهي الأسرة بأكملها·
وقد فسر >ابن كثير< الميثاق في هذه الآية >بالعقد< وقال على لسان >ابن عباس< هو إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان(5)·
إذن فهذا الميثاق هو الأساس الذي تنبني عليه الأسرة و استنادا إلى مقوماته يتم الاتفاق بين طرفيه الزوج والزوجة ، فبرضاهما سينتقلان من فردين منعزلين إلى فاعلين اجتماعيين يتحملان مسؤوليتهما داخل الأسرة·
ولكون القرآن الكريم وصف هذا العقد بالميثاق الغليظ فلا بد لكل مقبل على الزواج أن يمكن نفسه ممايلي من الأساسيات:
1) الاستعداد النفسي والأخلاقي الكامل لأجل التحول من حال الفردية أو العزوبة إلى حال الزواج·
2) الوعي الكامل لمسؤلية الزواج وتبعاته وفق المنظور الشرعي لأجل تكوين أسرة سليمة البنية فعالة في بناء مجتمع صالح ·
3) أن يكون الزواج مبينا على رضى الطرفين كي تحصل القناعة والأدمة المبنية على رجاحة العقل لا على التهور والعاطفة·
لأن الزواج ليس غاية في نفسه بل هو طريق لغايات وأهداف سطرها المشرع لأجل بناء مجتمع متوازن تتحقق به عمارة الأرض ويتم به الاستخلاف·
4) أن يكون الزوجان عارفين من المعرفة الشرعية عند إنشاء أسرة، أي عليهما أن يعيا الحد الأدنى من الشرع بخصوص الخطبة وشروطها وعقد الزواج وأركانه وما يترتب عليه من أحكام، وكذلك أن يكون مطلعين على الأحكام التي تجبر كسر العلاقة الزوجية عند حدوث الشنآن بين الزوجين·
5) أن يكون الزوجان أو المقبلان على الزواج على دراية بخبرات الناس ممن سبقوهم في تشكيل أسر لأجل الاستفادة من تجاربهم في الحياة وتجنب ما يمكن أن يعرضهم لمثل ما تعرض إليه غيرهم من أخطاء والإقبال على كل خير وعلى كل تجربة طيبة سبقت في تجاربهم الناس كل ذلك وفق منظور شرعي وفهم سليم لواقع الناس وتجاربهم في الحياة·
6) الإلمام بقوانين الأسرة المنظمة للعلاقات الأسرية المعمول بها كلّ داخل وطنه، وكذلك تتبع خطوات التعديلات الواردة على هذه القوانين·
7) الاستفادة من قضايا الناس المعروضة في محاكم الأسرة لأجل تجنب التعرض لمثل ذلك مما قد يجني على كيان الأسرة بكامله وبخاصة الأطفال·
هذه بعض الأساسيات التي أراها ضرورية لكل اثنين مقبلين على إنشاء علاقة زوجية، فما هي خصائص الأسرة الناجحة؟
2) خصائص الأســـرة النـــاجـحــة:
إن الأسرة الخلية الأولى التي عليها يقوم بناء المجتمع، لأجل ذلك أسند إليها الشرع الإسلامي أعباء ومهام جسام تقوم بها لتضمن للمجتمع الإسلامي توازنه وتماسكه، فهذه المهام هي مسؤوليات يقوم بها أفراد الأسرة تحت رقابة ربانية في كل سلوكات الحياة الدينية والدنيوية·
إن الرغبة في الزواج هو اتجاه نحو البحث عن السكن النفسي والروحي والاستعداد الكامل لتبادل المودة والرحمة بين طرفيه· وهو استعداد تام لنبذ كل أشكال الأعراف والتقاليد الموروثة والمكتسبة من جهة الرجل ونظرته الدونية للمرأة والنظرة إليها كأداة للمتعة الجنسية ثم قمع كل الكفاءات والقدرات المتنامية والفطرية في كيانها وحركتها وكذلك من جهة المرأة ونظرتها للرجل على أساس أنه العنصر الذي ينبغي عليه أن يتعب ويشقى بينما هي تستهلك ولا تلقي له بالاً فيما يلزمه من حقوق واهتمام·
إذن الزواج هو حقوق وواجبات ينبغي على كل من الزوج والزوجة الوعي بها وجعلها المرتكز الرئيس لبناء أسرة فاضلة ومن أهم هذه الخصائص نذكر:
أ) المحبة والمودة والسكن:
إن أهم بناء يحفظ كيان الأسرة ويضمن استقرارها هو تبادل الود والمحبة بين الزوجين، وهو شرط رئيس لكل مقبل على الزواج بل هو أهم شرط ومرتكز لكل علاقة زوجية مصداقا لقوله تعالى: >ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة< >الروم- 21< اقتضت حكمة الخالق أن جعل للزواج مقاصد وغايات، بحيث هيأ كل من الرجل والمرأة كي يكون لصاحبه موطن راحة وطمأنينة ملبياً حاجاته الفطرية والنفسية والعقلية والجسدية على أساس من السكن والاكتفاء والمودة والرحمة بشكل متبادل بينهما·
والأسرة الفاضلة هي التي تحقق فيها الحب بين أطرافها حيث يتنامى هذا الحب على أساس من الاحترام المتبادل في كل من مناحي الحياة، وبالحب أيضا يجعل كل واحد منهما يحظى باهتمام الآخر وحسن تقديره وتفهمه ومواساته في أحزانه ومآسيه ومشاركته مسراته وأفراحه·
لأن الزوج الطيب هو الذي يصنع زوجة طيبة والزوجة الطيبة هي ا لتي تصنع زوجاً طيباً ومنه تتشكل أسرة صالحة واعية لدورها داخل البيت وخارجه، بحيث يقوم كل من الزوجين بدوره المنوط به من دون كلل أو ملل أو تواكل أو تقاعس على أساس أنهما يشكلان جسماً واحداً·
وفي وصف المرأة الصالحة يقول ابن سينا :>إن المرأة الصالحة شريكة الرجل في ملكه وقيمته في ماله وخليفته في منزله ·· وخير النساء العاقلة الدينة الودود، القصيرة اللسان، المطاوعة العنان، الناصحة الجيب، الأمينة الغيب، الرزان في مجلس الوقور في هيئتها، المهيبة في فاقتها، الخفيفة المتبذلة في خدمتها لزوجها، تحسن تدبيرها، وتكثر قليله بتقديرها وتجليه أحزانه بجميل أخلاقها، وتسلي همومه بلطيف مدارتها·< (7)·
ب) القيام بأعباء الأسرة على أساس من التعاون
إن التقارب بين الزوجين في الكفاءات والقدرات يمكنهما من التمازج والاندماج والتفاهم، ويجعلهما زوجين فاعلين داخل الأسرة والمجتمع يقوم كل منهما بدوره على أكمل وجه·
فالتواصل المستمر بين أفراد الأسرة يشكل تفاعلا متكاملا على أساس من التعاون المبني على الإخلاص والتفاني في خلق إنتاج نافع قائم على البر والتقوى وهذا هو التوجيه الرباني الوارد في قوله تعالى:{ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } >المائدة -2<·
والعلم إحدى سبل هذا التعاون ، لأنه بالعلم يتم تبادل الخبرات والكفاءات والتجارب بين الزوجين ، فما اكتمل تصوره وأثمر نضجه عند الزوج تتلقفه الزوجة بكل أدب وتواضع واحترام من دون أنفة وكبرياء واستحياء تضيع معه الفائدة التي بها تتم سعادة الأسرة والشأن نفسه بالنسبة للزوج فعليه أن يستفيد من خبرات زوجته في شؤون ومناحي الحياة من دون التعرض لحساسيات الفوقية أو الدونية بينهما·
وإذا هيأ كل فرد نفسه للاستفادة من خبرات الآخر تم تلقائيا بينهما التعاون في كل صغيرة وكبيرة وجنوا جميعا ثمرة أسرة فاضلة مبنية على الحب والفضيلة والإيثار والتعاون والثقة والأمان·
فالبيت الذي يسوده الحوار الهادئ، والتكامل المبدع يسهم في توسيع قدرات الأطفال ويكمل مهاراتهم ومعارفهم وينشئهم على التعاون والبذل والعطاء داخل البيت وفي الشارع وفي المدرسة ومن ثم تتشكل منهم شخصية سوية متوازنة ، فاعلة ومنتجة·
ج) الشورى داخل البيت عنوان أسرة فاضلة
إن الأسرة المسلمة تكون مبنية على أساس من الفضيلة مسؤولها الرئيس هو الزوج وبعده الزوجة ثم الأبناء، ويمكن أن نصطلح على هذه المكونات مؤسسة، والمؤسسة التي تسير وفق شروط منضبطة تحترم فيها القوانين وتكون مبنية على الشورى عند اتخاذ القرارات هي المؤسسة المثالية الناجحة·
إن السير الطبيعي للأسرة الناجحة لا بد أن يعي فيها الزوج والزوجة بمسؤولياتهما ، فمهما كانت القيادة الأسرية مبنية على أساس من التشاور والتحاور غير مستبدة برأيها، متفهمة لمشكلات الأسرة، مستجيبة لمتطلباتها، كلما كانت الأسرة تنعم بالنجاح والطمأنينة يسودها التوازن والوضوح والجلاء في كل القرارات·
فلا بد من الأخذ برأي الزوجة من لدن الزوج·
ولابد لها من الأخذ برأي الزوج كما لا ينبغي أن يستهان برأي الأطفال في الأمور التي تتعلق بهم وخصوصاً في تطلعاتهم الدراسية، لأنك بالإنصات إلى الطفل والأخذ برأيه إن كان صائبا تصنع منه آنذاك شخصاً سوياً قوياً أميناً، تربي فيه روح المسؤولية، لا تجعله متواكلا معتمدا على غيره في كل شيء، بل شخصا قوياً يستطيع أن يحل مشكلاته من دون الاعتماد على الآخرين·
وبهذا تنشأ الأسرة على التعاون، واقتسام الأدوار وأداء المهمات على أن تتكلف القيادة الزوجية بضبط سلوك الجماعة· فتمارس الرقابة على نفسها وعلى غيرها خشية الوقوع في المحارم أو المهالك أو الرزايا·
وعلى ذلك لابد من تجنب التفكير في مبدأ العقاب واستبداله بالتجاوز وإعطاء الفرصة للمخطئ من أفراد الأسرة كي يراجع سلوكه ويكفِّر عن خطئه·
وتعليمه أن السلوك المطلوب اجتماعيا هو >السلوك المتوقع< أي الذي يتوقعه المجتمع من الفرد، وهو الذي يجلب ويحقق حتما الثواب (9)·
إن بناء المجتمع الفاضل ينطلق من بناء الأسرة الفاضلة المبنية على أساس من التقوى لقوله تعالى: {يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجال كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} >النساء >1<·
تشير الآية الكريمة إلى أن أصل خلق الإنسان كان من أسرة واحدة (آدم وحواء) ومنها تشكلت البشرية جمعاء وتكونت الأسر والمجتمعات· فإذا كان حصن الأسرة منيعا قويا كان حصن المجتمعات منيعا قويا وخصوصاً إذا كان مبينا على أساس من التقوى وإرضاء رب العباد في السر والعلن، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكفي أن نعود >قليلا إلى الأسرة المسلمة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فنجد أنها كانت من أقوى الأسر في صمودها وقيامها بدورها الرسالي تجاه أبنائها فها هي أسرة >آل ياسر< تواجه الموت، ويستشهد الأبوان وتكون أولى الشهادات في الإسلام شهادة أسرة >آل ياسر< ولكنها أفرزت >عماراً<، ذلك الذي كان في يوم من الأيام معيار الحق والباطل كما حدده الرسول [< (11)·
فلنتخذ من هذه النماذج النيرة، والسير العطرة قدوتنا نحو بناء أسر فاضلة، فاعلة، تسهم في تنمية المجتمع كله، وتسعى إلى عمارة الأرض بأفراد خيرين، يتسمون بالصلاح ، الذي هو المسعى والمبتغى والأمل المنشود للمجتمع كافة·>...
أتمنى من الله أن يسدد خطانا ...ويمحو سيئاتنا...يارب